ثقافة مسرحية "تسعة" لمعز القديري: صرخة الإنسان الأخير في مواجهة الفناء أو ما قبل اللحظة صفر
هدوء مخيف، إضاءة قاتمة، موسيقى موحشة، دخان وضباب يملآن المكان. ثلاث شخصيات لا يتبين لك منها سوى ظلها ولا تميز ملامحها، تجلس على صندوق متحرك. تتأوه إحدى الشخصيات، وتخترق صرخات مكتومة الصمت والظلام. ينبعث القليل من الضوء عبر كاشف كبير على رجلين وامرأة يرتدون لباسا أسود.
يستمر الصراخ، وترتفع الموسيقى ويزداد اختناق الصوت....فجأة، ينبعث صوت أنثوي: "عيّط، لن يسمعك أحد، كلهم نيام... لا فائدة من الصراخ، لقد أتعبهم السفر فناموا... لا فائدة، كلهم صُمّ، أتعبهم السفر فناموا، ماتوا... النوم يشبه الموت أحيانا. الدنيا بروفة للموت... نموت لنحيا ونحيا لنموت... الله أكبر". هل هذا هو الاحتضار؟ هل هي السكرات الأخيرة؟ هل هي الساعة الأخيرة؟

بطابع سوداوي قاتم، وشخصيات تشبه إلى حد كبير شخصيات دوستويفسكي التي يكون فيها الموت والاكتئاب بطلين أساسيين، أراد المخرج معز القديري أن يشتت أفكار الجمهور منذ اللحظات الأولى لمسرحية "تسعة (9)". إنه يجرّك إلى دوامة العبث والحيرة، ليجول بذهنك عشرات الأسئلة، أهمها: هل أخشى الموت والنهاية؟ وهل أنا مستعد للساعة الأخيرة؟ مسرحية"تسعة"، أو "غروب"، هي امتداد لثلاثية بسيكولوجية انطلقت بالعمل المسرحي "11/14".
العمل من دراماتورجيا وسينوغرافيا وإخراج معز القديري، عن نص لهيثم المومني الذي يشارك في بطولة العمل إلى جانب مريم بن حميدة ومروان الميساوي. وقد عرضت المسرحية ضمن المسابقة الرسمية للدورة الثالثة لـ "مواسم الإبداع" - المهرجان الوطني للمسرح التونسي، وذلك بقصر المسرح بالحلفاوين.
لماذا "9"؟
يحمل الرقم "9" طيفا واسعا من المعاني ورمزية غنية ومتنوعة عبر مختلف الثقافات والمعتقدات ويعتبر بشكل عام رمزا للاكتمال والحكمة، وخاصة النهايات التي تسبق بدايات جديدة، فهو يرمز إلى نهاية دورة وبداية أخرى محتملة، ويمثل النضج الروحي وبلوغ مرحلة متقدمة من الوعي. بالإضافة إلى دلالاته في بعض الأديان كرمزية للقداسة أو نهاية رحلة معينة. وهنا نلاحظ أن اختيار رقم 9 كعنوان للمسرحية كان موفقا جدا، خاصة وأن الشخصية المحورية في المسرحية تؤجل النهاية وترفض الموت.
العناق الأخير
شخصية بلا ملامح، دون هوية، تائهة ومعزولة وسط الأنقاض، تقف في مواجهة عالمين: عالم مادي واقعي وآخر لا مادي يجسد صراعها مع الخوف ومواجهة حتمية الحياة.
سينوغرافيا الخراب في فلسفة معز القديري
مشاعر مرتبكة تصلنا عبر الصرخات والأنين. وهنا تبرز أهمية السينوغرافيا في "تسعة" والتوظيف المحكم للموسيقى والإضاءة، حيث اعتمد القديري على الألوان القاتمة المتراوحة بين الأسود والرمادي، وهي قتامة لا تعكس الفضاء العام للعمل فحسب، بل نفسية الشخصيات والخراب الذي يسكنها.
أما الموسيقى، فهي مزيج من الصمت والضجيج، من الهدوء والفوضى، تتخللها أصوات الشخصيات وأحيانا أصوات من المجهول، ربما هي أصوات من الماضي وذكرياته أو من العالم الآخر الأبدي. ديكور بسيط يعبر عن الفراغ أو النهاية.. صندوق يتوسط الركح، هو القبر أو ربما صندوق نقل الموتى، أو العزلة التي تدفعنا إلى الانغلاق على ذواتنا في صندوق، رافضين مواجهة الواقع أو الحقيقة، إضافة إلى كاشف ضوء ينير أحيانا وينطفئ، للتعبير عن ثنائية القوة والاستسلام، نجد أيضا الميكروفون، وما أحوجنا إلى مكبر صوت للأصوات التي تعج داخلنا.

الصراع والمساءلة
تتحرك الشخصيات وسط هذا الفضاء الضيق مختنقة، وكأنها تؤدي رقصتها الأخيرة في محاولة لتأجيل النهاية.
يحاول البطل عدم الرضوخ لمصيره المحتوم، وتواجه روحه جسده في حوار المساءلة، يتحول جسده في مشاهد أخرى إلى ملائكته الرافضة لتصرفاته وأخطائه وإصراره على التمسك بالعالم المادي، مستحضرة الآية 30 من سورة البقرة: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". تحاول روحه إقناعه بزوال العالم المادي والانتقال إلى عالم لا حروب فيه ولا خوف ولا دماء، لكن البطل يصر على ألا يستسلم، فتتمزق روحه في عالم لم يعد موجودا. يسائله الصوت الأنثوي بكل ما يحمله من حب ودفء، ويحاول إقناعه بالفناء وحتمية الموت. إنه حوار موجع أو لحظات اعتراف ضمني من البطل بفشله في محاربة الموت، وبحث في اللحظات الأخيرة عن الخلاص.
حين يتحول الصمت إلى بطل في جدلية الحياة والموت...
ستون دقيقة من التخبط والألم والصراع الذاتي، لنجد أنفسنا أمام سؤال جوهري: "ماذا بعد النهاية؟" وهل لا بد من النهاية؟ وهل لا بد من المواجهة والنظر بإمعان في دواخلنا للخلاص؟ من خلال "تسعة"، يطرح القديري وفريقه أسئلة وجودية عن الإنسان، أو بالأحرى آخر إنسان على وجه الأرض، وعن المصير والحتمية والفناء. تسعة أو ما قبل الصفر، هي لحظة الصدام التي يعيشها الإنسان حين يواجه مصيره المحتوم، هي لحظة ما قبل النهاية.
لقد اعتمدت المسرحية بشكل كبير على الرمزية وعلى الصمت، بعيدا عن الخطاب والحوار الكلاسيكي المباشر، حيث يوظف القديري الجسد كلغة والصمت كحوار، ليضعنا أمام مسرحية ترهقنا نفسيا. إنه يحول الضوء إلى لغة بين الحياة والموت، والظل الذي لا يجعلك تميز ملامح الشخصيات، ويدفعك للاستماع إلى صمتهم الذي يتحول إلى ثرثرة حين تعجز الكلمات عن التعبير. لم يقدم القديري والمومني أجوبة عن الفناء وثنائية الموت والحياة والوعي واللاوعي، بقدر ما يدفعانك إلى التساؤل. وربما صرخة البطل في نهاية المسرحية هي صرخة الخلاص والتصالح مع الموت والفناء. ولكن، ماذا بعد النهاية؟
سناء الماجري